ربما الآن أصبحت قادراً على الكلام، صرت قادرا على وصف بعض ما حدث، فقد بدأت أتأكد أنني ما زلت على قيد الحياة ولم أمت.
لم أكن أتخيل يوماً وأنا الذي صورت عشرات الفيديوهات لانتشال سوريين من تحت الأنقاض، لم أكن أتخيل أن تنقلب الأدوار فجأة، وأصبح أنا الحدث بدلا من كوني ناقلا له.
عند الساعة الـ12 إلا الربع تقريبا من منتصف الليل وصلت مع شقيق روحي “خالد” رحمه الله إلى مسكننا بحي الشعار في حلب.
كل ما شعرت به أنني فجأة أصبحت محاطاً من كل جهة بحجارة وحديد وتراب ولا أستطيع الحراك أبدا
توقفنا وكلّمنا بعض الجيران الجالسين على شرفات منازلهم، ثم قلت لخالد سأسبقك إلى الشقة، مشيت أمامه وبعد قليل بدأ بالسير خلفي، كان على بعد أربعة أو خمسة أمتار مني حسب ما أذكر.
دخلت مدخل المبنى الذي نقيم فيه، هو مدخل ضيق مظلم على أطرافه “ساعات وعدادات كهرباء ومياه” لأهالي المبنى.
لم أكن أتخيل أبدا ما الذي ينتظرني، لم أسمع أي صوت لانفجار أو غيره، كل ما شعرت به أنني فجأة أصبحت محاطاً من كل جهة بحجارة وحديد وتراب ولا أستطيع الحراك أبدا.
كانت هناك فتحة هواء صغيرة جدا قرب أنفي وفمي أحاول التنفس من خلالها، شعرت بالمياه تتسرب في محيطي، ثم بعدها بدأت أشعر بموجات ألم غير محتمل في معظم أنحاء جسدي، لا سيما رأسي، والألم يشتد، حاولت الصياح من تحت الأنقاض.
لم يخطر ببالي إلا من أُحب، لم يخطر ببالي إلا من كنت أشعر بأنه مستعد ليفديني بروحه، من أخاف عليه أكثر من نفسي وأهلي.
صحت: خالد خالد، أنا هون يا خالد، خليهن يفصلوا الكهربا حباب.
خالد كان خلفي بعدة أمتار ولم يدخل في مدخل المبنى أصلا، لذا لم أكن أتوقع أبدا أن خالد في هذه اللحظات قد طار عدة أمتار بفعل ضغط الانفجار، وأنه قد أغمي عليه بسبب شظية دخلت رأسه.
تابعت صياحي: “خالد يا خالد سامعني؟! أنا هون خليهن يفصلوا الكهربا”.
أسلاك الكهرباء التي تبعثرت بسبب الانفجار استمرت بتوجيه صعقاتها الكهربائية لجسدي المدمى تحت الركام.
حاولت فتح عيني، كنت محمولا على نقالة، قلّبت نظري في وجوه من حولي؛ لم أر خالد
من جديد صرخت، لكن بصوت أخفّ: “يا جماعة اللي سامعني يفصل الكهربا حبابين”.
بعد أن بدأت أفقد الأمل جاءني صوت يشبه كثيرا صوت خالد: “يالله عم نفصلهم.”
فعلا بدأت الصعقات الكهربائية تخف شيئا فشئياً حتى ذهبت كلياً، هنا ارتحت نوعا ما، وبدأ جسدي يسترخي، حاولت الصياح مجددا، لم أستطع، فقد انهارت قواي بالكامل، نطقت الشهادتين، وبدأت أنتظر لحظة فراق الحياة.
نمت أو ربما أغمي علي لا أعلم بالضبط، المهم لم أعد أشعر بما يجري حولي، استيقظت بعد قليل على أصوات حفّارات فرق الدفاع المدني وهي تحفر قرب مكاني تواجدي.
الدقائق تمر واحدة بعد الأخرى وكأنها سنوات، بدأ الثقل الذي يحمله جسدي يخف شيئا فشيئا.
الحجارة تُزال من على كاهلي شيئا فشيئا، أزيلت من على قدمي ثم بطني ثم صدري. هنا أدركت أن رأسي عالق بين صفيحتي حديد أو حجرين قاسيين لا أتذكر بالضبط.
بعد قليل شعرت بأن جسدي أصبح حرّا بالكامل، حاولت فتح عيني، بعد جهد استطعت أن أفتحهما لأرى أنني محمول على نقالة قلّبت نظري بوجوه من حولي؛ لم أر خالد. أُغمي عليّ، استيقظت في اليوم التالي بعد إجراء عدة عمليات في رجليَّ وبطني.
نظرت في مَن حولي، وإذا بهم ملائكة تمشي على الأرض في زي أطباء وممرضين، سألتهم بعد أن أمعنت النظر فيهم: “عجب وينو خالد؟؟ هو بخير؟!”
يتبع…