تخطى إلى المحتوى

طبيب في الغوطة يوجه رسالته للعالم بتوقيت الدماء !

القرن هو القرن الواحد والعشرين حيث نجح العالم بالحفاظ على حيوان الباندا من الانقراض واستطاع العلماء اكتشاف امكانية الحياة على احد كواكب مجرتنا
العام هو العام الثامن عشر بعد الالفين حيث اضيئت في شوارع العالم اكبر شجرة عيد ميلاد واحتفل العالم بجوائز نوبل للسلام
الشهر هو الشهر الثاني حسب توقيت ميلاد السيد المسيح الذي ملأت تعاليمه الارض بعبارات السلام
اما اليوم فهو الخامس من التوقيت الدموي على حملة ابادة نصف مليون محاصر من المدنيين والاطفال والنساء في بقعة من العالم تدعى غوطة دمشق والتي غابت عن شاشات الاقمار الصناعية التي اجتازت مجرتنا الى غيرها من المجرات لكنها عجزت عن رؤية تلك الحمم والنيران التي تلتهم الاطفال والنساء
على ارض غوطة دمشق
يبدو ان الدماء تعيق عمل تلك الاقمار فقررت انا الطبيب المناوب مع زملائي الذين ما اغمضت عيونهم منذ خمسة ايام ايصال صوتنا لباقي مجرات الارض ليس لشيء الا املنا ان نجد في غير تلك المجرة مكانا لا براميل فيه ولاصواريخ تمزق اطفال غوطتنا ولا طائرات ترمي في كل دقيقة حممها على رؤوس النساء والاطفال والعجائز
اما المكان فهو ماتبقى من نقاط لإغاثة جزء من الجرحى الذين تقطعت اوصالهم وبترت اطرافهم واقتلعت عيونهم وازهقت ارواح اجنتهم لا لاذنب فعلوه سوى انهم ولدوا على كوكب الارض وحالت دماؤهم بينهم وبين مجسات الاقمار الصناعية وكمرات شاشات العالم فابيدو بصمت مطلق حقير قذر

خرجت مع جمع من زملائي وقد غاب عنا الزمان فلم نعد ندرك ليلنا من نهارنا وكل ما يجعلنا ندرك الوقت هو تلك المجازر والاشلاء التي تصلنا من المسعفين وصرخاتهم تنبئنا انهم كانو صباحا على طابور لتوزيع لقيمات الشعير فاردتهم براميل الموت اشلاء ممزقة
قررنا الخروج من قاعات العمليات لنتنفس هواء خاليا من رائحة الدماء ولتسمع اذاننا ولو للحظة غير صوت بكاء الاطفال وعويل الامهات….
وليتنا ماخرجنا!!!!!!
الممرات وردهات الانتظار والمداخل وقاعات الانعاش ومكاتب الادارة ومواقف السيارات كلها مملوءة بالمئات من الاسر التي حضرت مع ابنائها من تحت ركام بيوتها ولم تستطع العودة لانه لم يعد هنالك مكان تعود اليه
تضع الام ابنها الذي اجرينا له جراحة منذ يوم او يومين على الارض المتجمدة بلا حائل لان الاسرة والغرف امتلأت بالجرحى ترتجف يداه من شدة البرد وتبكي الام فوق راسه لاتدري ما تفعل
الجثث منتشرة بين الناس في الردهات والاطفال تبكي اباءها والنساء تبكي اطفالها ولا امكانية للخروج حتى لدفنهم فحتى المقبرة تم استهدافها ومكان تجهيز الموتى تم تدميره
شاهدت طفلا فقدناه البارحة و فشلت محاولاتنا بإنقاذ حياته وقد استلقت امه بجواره على الارض نائمة بعد ان جفت دموعها عليه طوال الليل فاستسلمت لنوم عميق وهي تحتضنه ودماؤه غطت ثيابها المشظاة
تسارعت خطواتي وتسرعت نبضات قلبي وانا اتنقل بين الجريح والشهيد والمصاب
وبين البشر الملقاة على الارض ابصرت قريبي نائما بزاوية منفردة ركضت تجاهه احث الخطا فاستوقفني احد اخوته وقال مات اخي وهو يحضر رغيف شعير لاطفاله
ياالله
يالهذه الجريمة
مات منذ يومين وانا الذي اضمد الجراح لم اعلم به وعجز الجميع حتى عن دفنه
نظرت في مراة سيارة الاسعاف فلم ابصر في عيوني تلك الدموع التي مافارقتني منذ سنوات وانا اودع الطفل تلو الطفل من ابناء وطني فعلمت ان للدموع نهاية كما ان لهذا الظالم نهاية كذلك
قررت ان اعود لرائحة الدماء فهي ارحم من تلك الاهوال في الممرات والردهات لكن عجوزا استوقفتني وقالت
هذا ابني امامي قتله برميل اعمى وهؤلاء الصغار اطفاله حوله يبكون اتعرف لماذا!!!!؟
لم اجبها فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت لي والله منذ يومين ماذاقوا لقمة طعام ابكاهم الجوع قبل ان يبكيهم اليتم
قهر الرجال
عجز العالم
موت الانسانية
ماذا اصف وماذا اجيبها
وكيف لما في جيبي من مال ان يسعفها وقد دمرت كل الاسواق والمستودعات فلم يتبق ذرة طعام في شوارع غوطة كانت يوما تعج بالحياة والثمار من كل لون فلم تعد تبصر في ازقتها سوى لون الدم ورائحة الموت
جلست بجوار تلك الجدة الستينية واعلم ان لاشيء يواسيها الا انني جلست لعجزي وقهري
فربتت على كتفي وقالت بالحرف
ان استطعتم دفن ابني فادفنوني حية بجواره فكما عجزتم عن انقاذ حياته ساعجز انا عن اطعام اطفاله
اي قهر هذا ايها القرن الواحد والعشرين
اي عجز هذا ايها العالم المدعي لانسانيته

رسالتي اليوم ليست الى قادة العالم وليست الى ملوكه وليست الى مجالس الامن ومنظمات حقوق الانسان
رسالتي الى شركائنا من البشر على هذا الكوكب
رسالتي الى من يعتقد انه مازال في روحه تلك النفخة الالهية
رسالتي الى من يضم اطفاله ليلا قبل نومهم
رسالتي الى كل ام تودع اطفالها صباحا بقبلات الحب قبل ذهابهم الى مدارسهم
لكل ام ولكل طفل ولكل اب ولكل انسان تتغلغل حروف الانسانية في خلايا جسده
اسمعوني……
هنا في الغوطة بشر مثلكم كل ما ارادوه حق بحياة كريمة ليس الا
فاضحت براميل البارود تتساقط فوق اطفالنا
وغصت سماؤنا بالطائرات التي تلقي حممها على رؤوس نسائنا
واشتعلت الارض من تحت اقدامنا
وانتم شركاؤنا على هذا الكوكب….
كل ما نريده منكم ان تثبتوا لاطفالكم انكم ماتركتم اقرانهم يموتون بلا ذنب لانكم بشر تملكون في قلوبكم تلك النفخة الالهية
اخبروهم انكم فعلتم شيئا لانقاذهم وايقاف تلك المجازر بحقهم
اخبروهم ان كوكب الارض يتسع لهم ولاقرانهم

وان تغاضيتم عن تلك المجازر والدماء فاعلموا يقيننا ان هذا الكوكب لن يستحق وجودكم عليه
وكما انه يدور حول ذاته فسوف تدور تلك المجازر في عقولكم وتلافيف ادمغتكم لتحرمكم نومكم وسعادتكم ولذة تقبيل اطفالكم في كل يوم
ويقيننا ان من اوصل لقيمات الطعام الى بطون اطفالكم وانزل الدفء على اجسادهم لن يضيعنا ولكن دماء اطفال غوطتنا عار عليكم ان اغمضتم طرفكم عنها
فانقذوا معنا انسانيتكم.

الدكتور حسام عدنان – الغوطة الشرقية