لا نبالغ إذا ما وصفنا الحدث البارز والأهم والمفصلي حالياً ضمن القضية السورية – ألا وهو عملية “نبع السلام” في مناطق شرقي الفرات بسوريا – بأنه الحدث الذي ظهرت فيه سياسة الكيل بمكيالين بأوضح صورها، وأكثرها شراسة وإيلاماً، بشكلها الواضح المباشر، ولدى الجميع بلا أي استثناء، أنظمة وحكومات وأحزاب وأجهزة إعلام وشعوب، بل وحتى على صعيد كل فرد فينا.
لذلك، وفي زحمة الأحكام والأقاويل والموازين المكسورة، يجب أن تبقى بوصلة السوري الوطني النزيه هي ثورته، ثورة شعبه التي هبت لنيل حرية وكرامة هذا الشعب، ونيل استقلال وطنه بشكل حقيقي، والنهضة به لينال ما يستحق من مكانة بين الأوطان والأمم، وبناءً على هذه البوصلة الثورية النقية، ينبغي على السوري الثائر أن يبني جميع أحكامه ومواقفه ومعاييره، وأن يُخضع سياسة الكيل بمكيالين لدى كل الأطراف لهذه البوصلة، لكيلا يضل طريقه في زحمة الأصوات والمواقف.
بدايةً ينبغي لنا أن نؤكد وقبل كل شيء حقيقة أن تنظيمات “PKK / PYD / YBG” هي عبارة عن أوجه لكيان واحد إرهابيّ محتل قد بسط سيطرته في غفلة من الزمن على كامل مناطق شرقيّ نهر الفرات في سوريا، ليحكم المنطقة – الزاخرة بالخيرات والثروات – بالحديد والنار، ويرهب أهلها من كافة المكونات السورية ويخضعهم لفكر وأيديولوجيا بعيدة كل البعد عن ثقافتهم وعقيدتهم وأسس عيشهم المشترك. كيان وقف في وجه ثورتنا المحقّة، وطعنها في ظهرها أكثر من مرة، وكان عدواً صريحاً ومباشراً لها، بل لم يتورع عن وضع يده في يد أعداءها للوصول إلى ما يريد من أهداف.
يجب ألا ننسى بأن هذا الكيان الإرهابي الغريب عن السوريين والكارة لثورتهم قد قام بقتل واعتقال المئات من الثوار السوريين، وسلّم عشرات الثوار المعتقلين لديه إلى نظام الأسد ليلقوا مصيرهم المأساوي المحتوم، كما قام بقتل وتشريد وتهجير عشرات الآلاف من السوريين، لينفذ مخططاته الخبيثة، وليكون كياناً سرطانياً غريباً في جسم سوريا، لا يفرق في شيء عن دولة الكيان الإسرائيلي التي ظهرت كالسرطان في جسد العالم العربي منذ مطلع القرن الماضي.
والأهم من كل ذلك، يجب أن نؤكد كثوار سوريين مخلصين لسوريا ولكل أبناءها بأن إخوتنا السوريين الأكراد بريئون من هذا الكيان وكل ممارساته وأفكاره وأطماعه، بل هم أكثر مكون سوري عانى من ويلات هذا التنظيم وبطشه، ويجب علينا الفصل التام ما بين موقفنا من هذا الكيان، وموقفنا من أكراد سوريا الذين يشكلون مكوناً أصيلاً من مكونات الشعب السوري، بل وفيهم الآلاف من الثوار الذين وقفوا مع صيحات الحرية الأولى منذ انطلاقة الثورة السورية.
هذا هو موقفنا من هذا الكيان المعادي، وهذا هو موقفنا من إخوتنا الأكراد، وعليه فمن الطبيعي أن نكون مع أي عمل عسكري أو سياسي يقصي الغمامة السوداء لهذا الكيان الغاصب عن أرض وطننا، ويضع حداً لممارساته الشنيعة بحق الشعب السوري في منطقة الجزيرة السورية بشتى مكوناتها وأطيافها، ولكن …
ولكن مع كل تأييدنا لعملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا للقضاء ضد هذا الكيان وتحرير الأرض السورية منه ،مع مطالبتنا للجميع تجنيب المدنيين وحمايتهم والحفاظ على أرواحهم وممتلكاهم ، لا نستطيع إلا أن نشعر بشيء من المرارة – كثوار سوريين – ونحن نرى كيف تم الحشد العسكري بشكل كبير وبكل الطاقات البشرية واللوجستية، بل وحتى كيف توحدت كل الفصائل العسكرية للثورة السورية في بضع ساعات ، بينما لم تنل محافظة إدلب – أو غيرها من المحافظات السورية التي احتلها نظام الأسد وحلفاءه – مقدار ربع هذا الحشد وهذا التجهيز وهذا التوحيد والدعم.
نشعر بالمرارة، ونحن نرى كيف ترزح إدلب تحت رعب القصف الأسدي الروسي ليل نهار، بكل من فيها من ملايين المدنيين العزّل، دون أن تهب الجيوش لنجدتها، ودون أن تتوحد الفصائل للذود عنها كقوة ضاربة منظمة مدعومة من المجتمع الدولي في وجه غطرسة الاحتلال الروسي والنظام الأسدي.
بكل تأكيد، نقرّ بمدى خطورة “قسد” وميليشياتها علينا وعلى وطننا وثورتنا، إلا أنه – ومن منظور إنساني بحت – فخطورة “قسد” على بلادنا وأهلنا ومستقبلنا لا تشكل عُشر خطورة نظام الأسد، وما استجلبه إلينا من احتلالات روسية وإيرانية وميليشيات مرافقة لهم جميعاً، بكل ما لديهم من حقد ولؤم وشهوة لسفك الدم وطمس الهوية وسلب الخيرات والثروات.
كنا نتمنى من فصائلنا العسكرية الثورية أن تتوحد فعلاً تحت كيان واحد منظم، ولكن قبل هذا اليوم بكثير جداً! كننا نتمنى ان نراها تفعل هذا الأمر من تلقاء نفسها، وبتنظيم داخلي من ضباطنا الشرفاء المنحازين لثورة الشعب السوري، وبانضباط ذاتي من كل مقاتل وكل ثائر يشعر بثقل الأمانة الملقاة على عاتقه بعيداً عن أي إغراء أو أوامر خارجية، كنا نتمنى أن نراها موحدة عندما كانت حمص تستصرخ، وحلب تستنجد، والغوطة تنادي، وإدلب تتألم!
بالمقابل، لا نشعر بالمرارة والألم فحسب، بل نشعر بالخزي والعار والغضب أيضاً ونحن نرى موقف “الجامعة العربية” وبعض الدول العربية “الشقيقة” من عملية نبع السلام التركية في الأراضي السورية، والتي يزعمون فيها بأن القوات التركية هي “قوات احتلال”، وأن العمل العسكري في سوريا هو “عدوان”، ويسفكون دموع التماسيح على أمن وأمان سوريا وشعبها، بينما – ويا للعجب – لم نسمع لهم صوتاً عندما دخلت القوات الروسية إلى سوريا منذ أربع سنوات بكل ثقلها العسكري وبكل عجرفتها ووحشيتها لتساند نظام الأسد الإرهابي الفاشي وتثبت أركان حكمه، لتقتل بالاشتراك معه مئات الآلاف من السوريين، وتفرض عليهم واقع حصار المدن والتهجير والتغيير الديمغرافي.
نتساءل، أين كان ذلك الصوت المدوي للجامعة العربية، وأين كانت اجتماعاتها الطارئة الخطيرة، وأين كانت إداناتها وغيرتها على سوريا وخوفها على السوريين، عندما كانت روسيا تلقي بلهيب طائراتها على إدلب، وتقتل المدنيين العزل بالجملة، وتحاصر المدن السورية وتجوع أهلها ثم تهجّرهم؟ لو جاز لنا أن نعتبر التدخل التركي احتلالاً، ألا يعتبر التدخل الروسي احتلالاً من باب أولى؟ احتلالاً مقيتاً بغيضاً قتل وشرد ودمر وأجهز على حلم سوريا بالحرية والاستقلال والنهضة؟ فأين كان صوت الجامعة العربية وقتذاك؟ وأين كانت غيرتها وحميتها على سيادة سوريا واستقلالها وأمنها؟
وذات الأمر ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي التي أقامت القيامة بسبب العملية العسكرية التركية في سوريا، وبدأت بالعزف على ذات نغمة أمن سوريا واستقرارها وسلامتها، وكأن سوريا كانت تنعم بالأمن والأمان والراحة والسؤدد قبل دخول الجيش التركي إليها، وكأن السماء كانت مشرقة والزهور متفتحة والعصافير تزقزق قبل ان يعكرها تحليق الطائرات التركية! ألا يخجل “العالم المتحضر” من الحديث عن أمن سوريا واستقرارها الآن بالذات، بينما لم توقظ إنسانيتهم تسع سنوات من المحرقة الأسدية الروسية الإيرانية بحق الشعب السوري؟
أيها العالم … بكل حكوماتك وشعوبك ومنصاتك الإعلامية، وفروا إنسانيتكم وحملاتكم وتضامنكم وخططكم الحربية اليوم لأجل ثلاثة ملايين انسان ينتظرون مصيرهم المجهول في بقعة جغرافية صغيرة اسمها “إدلب”! ثلاثة ملايين انسان جالسين تحت رحمة إرهاب “حقيقي” ووحشية لا ترحم من قبل نظام الأسد وميليشياته الطائفية الحاقدة، ويتربص بهم احتلال “حقيقي” يتمثل بالاحتلال الروسي الوقح المتغطرس! فقد آن لكم جميعاً – لو كان فيكم شيء من الإنسانية – أن تبصروا العدو الحقيقي لسوريا والسوريين، وأن تعملوا على تخليصنا منه إلى الأبد.
ويبقى السؤال – كما مصيرنا – معلقاً في فضاء المجهول حول مستقبل سوريا، وشعبها، وتلك الحرية التي ضحينا بالكثير جداً لكي ننالها، أو … تمنينا أن ننالها.